الوعي الانتخابي وتقرير المصير...!


كتابات - د.مراد الصوادقي

يحتاج المجتمع إلى محاولات متواصلة لكي يدرك بأن الديمقراطية قوة وقدرة على التعبير والتفاعل الإنساني الأمثل , فليس من السهل التخلص من التأثيرات الجينية والنفسية والفكرية للتبعية والاستبداد والطغيان وفقدان إرادة تقرير المصير. ولهذا فأن مواصلة الممارسات الديمقراطية ستساهم في خلق هذا الوعي وتمكين الناس من الاعتداد بآرائها وقدراتها والتفاعل مع بعضها من أجل مصلحة الوطن العليا التي هي فخر لجميع أبنائه.
فهل أن تجربتنا الديمقراطية ذات قيمة إيجابية في مسيرة الثقافة والنضوج الديمقراطي , ربما يكون الجواب بنعم , رغم ما يمكن أن يقال عنها , وهو أيضا تفاعل إيجابي, لأنه يرصد السلبيات والمعوقات ويدعو إلى تجاوزها في ممارسات لاحقة , وبهذا فأننا ننشئ تراثنا الديمقراطي الذي سينير لنا طريق التفاعلات القادمة وعلى جميع المستويات. فالديمقراطية مسيرة ونشاطات فعالة , لكن المهم فيها أن تترسخ وتتواصل ويمضي المجتمع في طريق التعبير عن إرادته الحرة وقدرته على تقرير مصيره وبناء حاضره ومستقبله.
ترى متى سيكون المجتمع مؤهلا نفسيا وفكريا وثقافيا لخوض انتخابات حضارية معاصرة تعبر عن إرادته , وتفاعل آرائه الحرة التي ترسم خارطة مستقبله وتبني مسيرة أيامه الصاعدة إلى حيث الأمنيات والأحلام والإمساك بناصية الأهداف.
إن من غير المعقول أن نتصور مجتمعات لا تعرف معنى الديمقراطية كممارسة وفعل إنساني حي , أنها ستقرر بصدق ونزاهة ووعي في أي انتخابات. فالديمقراطية تجربة وسلوك يتعلمه أبناء المجتمع منذ الطفولة , من البيت والمدرسة والمحلة والشارع , وصعودا إلى أعلى المستويات والمراكز الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. فليس من الموضوعي أن نحسب أن الانتخابات ستتمخض عن نتائج عادلة وحقيقية , لأن الناخب لا يمتلك رأيا حرا ولا وعيا كافيا لدوره ومعاني تقرير مصيره وتأكيد إرادته . فهو قد ورث التبعية والخضوع عبر أجيال متواصلة ما تمكنت أن تأتي بجديد مفيد لبناء الحياة الديمقراطية في وطنه , بل أن معانيها قد تشوهت وممارساتها قد انحرفت فأصبح الاستبداد ديمقراطية والعكس صحيح أيضا.
لكن الحقيقة الكبيرة والفعل المهم , هو أن تبقى المجتمعات في محاولاتها الديمقراطية المتواصلة , حتى يتحقق الوعي الجماعي ويتثقف المجتمع ديمقراطيا , فيكون قادرا على الإمساك بدفة شراع مصيره ورسم خارطة حياته. وعندما تتأكد القيم والأخلاق الديمقراطية يكون من الصعب على أية قوة أن تخترق المجتمع وتعبث بمصير أبنائه.
وقد يقول البعض ما يقوله عن الانتخابات في مجتمع ما وتحت ظروف طارئة أو غير مستقرة , لكنها يجب أن تُقدر وتُحترم كمحاولة لممارسة السلوك الديمقراطي , وأنها مرحلة أو خطوة في طريق تعليم أبناء المجتمع مهارات الشعور بالمسؤولية واتخاذ القرار الجماعي , من أجل بناء وطنهم والوصول المتفاعل إلى أهدافهم , بعيدا عن الاستبداد وأساليب الطغيان والإمعان بالظلم والقهر والتنكيل.
لقد أوضحت المحاولات الديمقراطية في بعض المجتمعات مواضع القوة والضعف وأشارت إلى التناقضات , لكنها ساهمت في منح الإنسان الدافع الحر للفعل والقدرة على استعادة الثقة بالنفس والجد والاجتهاد والتحفز للنشاط الاجتماعي البناء , وطرح المشاريع ذات الفائدة الوطنية التي تتفاعل من أجل صيرورتها جميع مكونات المجتمع التي تعيش في بودقة الوطن.
وربما يقول قائل أن المحاولة غير معبرة عن واقع الإرادة والحال , لكنها ستعين المجتمع على ترسيخ القواعد الديمقراطية وتفهم معاييرها ومناهجها , وستدفع بكل فرد فيه إلى التساؤل عن دوره وكيف يدلي بصوته , لأن لصوته دور وقيمة في تحقيق الحياة وبناء الوطن. أي أن المردودات الإيجابية لأية محاولة ديمقراطية ستتفوق على النتائج السلبية لها , لأن الأجيال ستتفاعل وتنجب جيلا قادرا على التعبير الديمقراطي الأمثل عن مصالحه , مثلما يحصل في مجتمعات الديمقراطية العريقة , التي أصبحت مؤلفة من أجيال ذات وعي معاصر وقدرات ثقافية وفكرية ضرورية للوصول إلى فعل ديمقراطي حضاري ناضج ومتطور. كما حصل في المجتمع الأمريكي أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة , حيث قرر بوعي وإرادة حرة ورأي ناضج أن يختار رئيسه الذي يرى فيه القدرة على تحقيق تطلعاته وتأكيد رؤاه , مما أدى إلى تساقط رموز لها تأريخها ودورها في حياته , لكن المجتمع الحر الواعي قرر أن يجد البديل والمعبر عن إرادة المحبة والحرية والتغيير بعيدا عن مناهج الحياة السابقة.
وهكذا فأن الديمقراطية الناضجة , عبارة عن ممارسات متنامية تصل إليها المجتمعات مثلما يصل الطفل إلى كامل نضجه بعد مروره بمراحل التطور البدني والنفسي والعقلي المعروفة. ويبدو أن بعض المجتمعات لا زالت في مرحلة الطفولة الديمقراطية , وأن التفاعل المتواصل وعوامل الزمن وتطلعات العصر ستجعلها قادرة على المرور بالمراحل اللازمة لتجربة ديمقراطية ذات قيمة حضارية مهمة. وأن بعض المجتمعات قد تجاوزت مرحلة المخاض وها هي تولد بعد عناءات قاسية ومريرة , لكنها تغرس أشجار الأمل في دروب التفاعل الاجتماعي القوي البناء الذي سيصنع وطنا مستقرا وقادرا على تحقيق طموحات أبنائه.
وأملنا أن ترتقي مجتمعاتنا في محاولاتها الديمقراطية إلى مصاف تلك المجتمعات التي عبرت عن قدراتها الحضارية , وتفاعلاتها المتطورة في إطار الوطن الواحد والمجتمع القوي المتماسك الذي يضم جميع الاختلافات , ويؤكد تنوع الآراء والأجناس والطوائف والمعتقدات في مسيرة الحياة الحرة الكريمة.
فأهلا بكل سلوك ديمقراطي ومرحبا بمستقبلنا الحر السعيد. فالديمقراطية تعني الحرية , وهي أسلوب حياة يومي وتفصيلي أرجو أن نتربى عليه لنخرج من دوامة الويلات والأحزان والجهل والخداع والتضليل , فنصون وطننا ونبني حاضرنا ونؤسس لمستقبل الأجيال بقدرات متنامية وأفكار متفاعلة ذات قيمة مؤثرة في صناعة الحياة الأفضل لنا جميعا.

alsawadiqi@maktoob.com

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP