المالكي والهرم المقلوب!

كتابات - عبد الله الفقير

الشعور بالانتماء حاجة اساسية لا يمكن للمرء ان يحيا بدونها,وهو عنصر نقص وداء يعاني منه كل من لا ينتمي او لا يشعر بالانتماء,وهذا الانتماء ياخذ اشكالا عدة قد يكون الانتماء الى الوطن او الدين او القبيلة احد اشكاله الاشد ظهورا والاكثر وضوحا والابلغ تاثيرا في سلوكيات الانسان وبناء دوافعه.في الاصل,كان الفرد هو الاساس الاول للوطن او الدولة التي انتمى الانسان لها,فعندما وجد الانسان الاول,كان وطنه هو حدود ذاته والحيز الذي يشغله,كان وطنه هو المكان الذي يُعرّفه بنفسه ودلالاته ورموزه,وكان الفرد الواحد هو الوطن والراعي والرعية,فكان نظامه الاداري يتشكل من عنصر واحد هو الذات,ثم بعد ان تشكلت الاسرة الاولى,واصبح هو "الاب" ,صار هو قائد الدولة ورب لشعب يتشكل مواطنوه منه ومن زوجته والاولاد,ثم بتوسع الاسرة افقيا وعموديا و بتشعبها اصبحت عائلة يقودها هو الذي اصبح اليوم "جدا" بعد ان حملت اسمه واصبحت تتسمى به,ثم باندماج العائلة وتداخلها مع بعضها ومع عوائل اخرى في زيجات واواصر داخلية وخارجية اصبحت العائلة عشيرة يقودها هو بعد ان اصبح اكبرها و اوجهها و اشجعها و اغناها و احكمها ,واصبح اسمها مشتق من اسمه,لانه يحمل اسم العائلة الاكبر او الاشهر او العائلة صاحبة "الاظهر" ( الرجال) على حساب العائلة صاحبة "البطون" ( النساء),ثم بانتشار العشيرة وتوسع نفوذها وانتشار عناقيدها في اراض اخرى بعيدة عن مكان العائلة الاصلي وانضمام عوائل وعشائر اخرى تحت جنحها وحمايتها اصبحت قبيلة تحمل اسمه اي اسم العشيرة الاقوى والاكثر عددا او الاكبر قوة ونفوذا,ثم بدخول القبيلة بمجموعة تحالفات اختيارية مع قبائل اخرى لمصالح تجارية واقتصادية او دفاعية,او بدخولها بتحالفات اجبارية كاخضاعها بالقوة للانضمام تحت نفوذ وسيطرة قبيلة اخرى,اصبحت القبيلة دولة بنظام قيادي واحد يحمل اسم القبيلة الاقوى نفوذا,او قد تصبح دولة بنظام قيادي يتشكل من مجلس قيادي كما كان عليه حال مكة قبل الاسلام,وعندها قد تحمل الدولة اسم المنطقة التي تستوطنها وتلك هي الدولة القبلية.

الدولة هي احد اشكال النظام,والنظام يحتاج الى طاقة او قوة يخضع بموجبها مجموعة العناصر التابعة له لذلك النظام ,وبمجرد ان تضعف تلك القوة سوف يبدا النظام بالتخلخل ثم التفكك واخيرا الانهيار والتحلل الى الوحدات الاساسية.في نظام الدولة القبلية سوف يبدا النظام بالتفكك والانحلال بمجرد تعرضه الى اي فتنة داخلية او ضغط خارجي ,حيث يبدا ابناء كل قبيلة بالانزواء الى قبيلتهم,ثم يبدا تحلل كل قبيلة الى مجموعة عشائر,ثم بتحلل كل عشيرة الى مجموعة عوائل ثم بتحلل كل عائلة الى مجموعة اسر,ثم اخيرا بتحلل كل اسرة الى وحدات منفصلة,حيث يعود كل شخص هو قائد نفسه ووطنه ذاته.

عندما تطورت الدول القبلية,انتقلت من النظام القبلي الى النظام العقائدي,وهو النظام الذي تعتمد الدول في تشكيل هرمها التكويني فيه على اساس العقيدة وليس على اساس الدم والقربى,حيث تعتمد قوة وتماسك وصلابة عناصر ذلك الهرم على قوة العقيدة التي يحملها الاشخاص المنتسبين لتلك الدولة ومدى ايمانهم بما تامرهم به تلك العقيدة,وعلى هذا الاساس تكونت الدولة الاسلامية وتشكلت الدولة النصرانية وتشكلت الدولة الشيوعية,وهي تتميز عن الدولة القبيلة بان التنقل بين مستويات هرمها لا يعتمد على الدم اوالعرق والسن,وانما كان على مدى الايمان بتلك العقيدة ومدى التضحية المقدمة من اجلها ومدى الكفاءة في قيادة المستوى الذي يوضع فيه من يقود.كما انها لا تقتضي التواصل الجغرافي لتشكل الدولة,فيمكن لشخص وهو يسكن في الهند ان يكون منتميا للدولة الاسلامية وان يكون خاضعا لقوانينها وان يحمل اسمها.ان ضعف العقيدة والفتن الداخلية في هذا النمط من الدول هو الذي يمكن ان يفكك الدولة وليس الضغط الخارجي الذي يمكن في اغلب الاحيان ان يقويها,كما ان تفكك هذه الدولة سوف يؤدي الى تحللها مباشرة اما الى مجموعة مذاهب وعقائد ثانوية كانت داخلة ضمن العقيدة الاساسية,او ان تتحلل الى عناصر مستقلة عندما لا تخضع تلك العناصر الى اي عقيدة جديدة او مذهب ,لتدور تلك العناصر باحثة عما يمكن ان يضمها اليها,فيعود اغلبها الى نظام الدولة القبلية ان عجزت عن العثور على ما يسد حاجتها الى الانتماء في احد مستويات الفكر التي هي في طبقة اعلى من طبقة العرق والدم والقربى,وعندما لا تجد حتى نظاما قبليا تؤيها انكفأت على ذاتها لتكوّن مملكتها ووطنها الخاص بنفسها, اما بتكوين اسرة يتخذها الشخص وطنا له ويتقمص فيها دور السلطان والرب ,او بايجاد الفكر الذي يؤمن به بنفسه ويغني حاجته فيكون لنفس مذهبا خاصا ومعتقدا ذاتيا,وان فشل حتى في هذا فسوف تجده مهاجرا يتسكع في دول المنفى يبحث عن وطن يؤيه بعد ان فقد اي معنى للانتماء.

عندما تتطور الدول العقائدية(والعقيدة هنا قد تكون دين الهي او وضعي او فكر او حتى حزب) فسوف تنتقل الى النظام الثالث من الدول الا وهو دولة القانون,وهو النظام الذي من المفروض ان تقوم عليه اغلب الدول الحديثة,وهي الدول التي تقوم بسن قانون تخضع له الناس اما طواعية او بالقوة,وكل من يخضع لذلك القانون على مستوى معين من المساحة الجغرافية يعتبر من ضمن مواطني تلك الدولة وتهبه جنسيتها,,بدايات تشكل هذه الدولة وحدودها الجغرافية الخارجية يكون في الغالب معتمدا اما على بقايا الدولة القبلية او بقايا الدولة الدينية او هو الخطوة التالية لتطورها,او ان تكون هذه الدولة قد انشات اصلا كنواة في بقعة جغرافية يفد عليها الناس ليكتسبوا جنسيتها بعد تعهدهم الخضوع لقوانينها .تتميز هذه الدولة بان "القانون" هو العنصر الرابط لكينونتها وانه القوة المحافظة على نظامها الشكلي من الانهيار,وبمجرد ان يضعف القانون فسوف تتفتت تلك الدولة وتتحلل الى عناصرها الاساسية,وعندها اما ان تتحول الى مجموعة دول وولايات,كما هو الحال في حالة تفتت امريكا ,او ان تتحول عناصرها الى عناقيد وكتل تخضع اما الى النظام القبلي او النظام العقائدي,فان لم تفلح هذه الانظمة في احتواء من تفكك عن ذلك الهرم فيسوف تتحول الدولة تدريجيا الى مجموعة اشخاص بدون اي رابط يلتهم فيهم القوي الضعيف,الى ان تجبرهم الظروف على التكدس من جديد اما تحت النظام القبلي واما تحت النظام العقائدي واما العودة من جديد لتكوين النظام القانوني.

كان صدام حسين قد بنى النظام الهرمي للعراق اعتمادا على نظرية التداخل بين الدوائر الثلاث ,فقد ادعى سعيه لبناء دولة "القانون" بالاعتماد على تشكيل مجلس ثورة يقوم على اساس النظام العقائدي(البعثي),ومحاولا من خلال النظام القبلي تشكيل حدود لحماية كرسيه!!فكان قد مزج الدوائر الثلاث في نظام واحد,ثم اعتمد على مجموع تلك الدوائر ووجها لغاية واحدة فقط الا وهي حماية سلطانه,فسمح لها بالتوسع والانكماش والتداخل والتقاطع والانفصال,والاقتراب والابتعاد شرط ان لا تمس حدود كرسيه بسوء,لذلك تجد الدولة احياننا في غاية الصرامة القانونية في احد اركانها لكنك تجدها في ذات الوقت متسيبة ومتميعة في ركن اخر,وتجدها تارة في غاية التدين والالتزام الخلقي والنظام,وتجدها تارة اخرى في غاية الفساد والانحلال الاخلاقي والا -نظام!.عندما احُتل العراق,لم يكن بمقدور الامريكان اعادة نظام التوازن نفسه الذي كان صدام قد صاغ العراق عليه ,مثلما لم يكن بمقدور العراقيين العيش مع واقع جديد لا يملك منظومة متوازنة يمكن ان تستوعبهم,لذلك انفرط عقد العراقيين,وانساق كل منهم يبحث عن وطنه في جهة ما,فراح بعضهم يبحث في الدين عن وطن عقائدي يسد رمقهم الانتمائي,واخرون عادوا الى اصولهم القبلية والعشائرية وحتى العائلية ,وراح اخرون يبحثون عن وطنهم في تكوين الاحزاب والجماعات الفكرية, واخرون راحوا يبحثون في العمالة للامريكان عن وطن يضمهم,واخرون وجدوا في الهجرة وطن بعد ان عجزوا عن صناعة وطن يؤيهم في وطنهم,فيما لم يجد اخرون سوى ان يرسموا حول بيوتهم اوطانهم ويحتمون فيها من بطش الدول الاخرى ويقصدون بهم الجيران,فقد اصبح الجيران كل منهم وطن له حدود وسفارات وجوازات سفر!.

ادرك الامريكان صعوبة وجود نظام عقائدي مبني على الدين,فلم يكن امامهم وقد انقسم العراقيون الى نظامين عقائديين سني وشيعي سوى ضرب كلا النظامين ببعضهما ثم العمل على تشكيل نظام قبلي يجهز على ما تبقى من الاثنين والتخلص منهما معا,وقد نجحوا في ذلك,وعند تلك النقطة وجد العراقيون انفسهم بلا وطن خصوصا بعد ان تفتت احلام الدول العقائدية التي كانوا يحلمون بها منذ ما قبل اسقاط صدام,وهنا ادرك العراقيون ان لا مفرلهم سوى اللجوء الى اخر شكل من اشكال النظام الا وهو النظام القبلي,وكان الامريكان قد سبقوهم في تاسيس النظام القبلي الذي سوف يلجاوون اليه,فشكلوا الصحوات ومجالس الاسناد ورفعوا من قيمة النظام القبلي والعشائري ماديا واعلاميا وتسليحيا وحتى اجراميا حتى اصبح المجرمون يتهافتون في الانتساب اليها لعلمهم انها الكيان الوحيد الذي لا يحاسبه الامريكان عندما يقومون بجرائمهم فيه,وهكذا استطاعوا استخدام النظام القبلي في القضاء على النظام العقائدي,وهكذا وجدنا الساسة العراقيين اليوم يتنابزون في الالقاب والازياء العشائرية على حساب الاسماء والالقاب والازياء الدينية التي عمت ما بعد الاحتلال,وحيث ان فكرة بناء الدولة على وفق النظام القبلي هي اضعف انماط الدول التي ممكن ان تقوم في الوقت الحاضر,وحيث ان فكرة انشاء دولة بهذا الشكل البدائي هو اشبه بعملية بناء صاروخ من الخشب لاجل الوصول به الى القمر!!,فقد ساهم الامريكان بدعم هذا المشروع بكل الوسائل ودخلوا بكل قوتهم ونفوذهم لاجل انشاءه,لانهم يعلمون ان دولة مثل هذه يقف هرمها بالمقلوب على راسه ويمسكونها باطراف اصبعهم للمحافظة على توازنها,لا بد لها ان تنهار وتتفتت بمجرد ان يرفعوا اصبعهم عنها حتى لو كان رفع الاصبع قد جاء لاجل حك الانف او هش ذبابة!!.

التطور الطبيعي للدول هو بانتقالها من النظام القبلي الى النظام العقائدي ثم بالانتقال الى النظام القانوني,وعندما يكون النظام العقائدي عادلا وحكيما,فسوف يكون النظام العقائدي كفيل بالانتقال السلس الى النظام القانوني ان لم يكتف بالنظام العقائدي فقط باعتباره يحقق النظام القانوني ذاتيا,كما هو الحال في النظام الاسلامي الاول في عهد الخلفاء الراشدين.لن تجد شعبا يريد ان يتطور او دولة تحترم نفسها يمكن تسير بعكس هذا المسار,فلا تجد من ينتقل بالدولة من القانون الى النظام العشائري,ولا من يسعى الى ان يسلح العشائر بما يفوق تسليح القوات النظامية,ولا الى من يقوي الاطراف على حساب المركز,ولا من يعتمد في تشكيل حزبه على ابناء العشائر على حساب ابناء الجامعات الا ان كان به اذى او مس الشيطان عقله بنصب وعذاب!!,لقد كره الشعب العراقي حتى قبيلته وعشيرته بعدما راى تجار العشائر يجوبون القواعد الامريكية بحثا عن لقمة عمالة يبيعون بها شرف العشيرة وهيبتها وتاريخها الذي كان نظام البعث قد مرغه بالوحل منذ سبعينيات القرن الماضي,عندما اصبحت العشيرة احد الهيئات التنظيمية لحزب البعث,وعندما اصبح رئيس العشيرة يعين من قبل الفرقة وليس من قبل وجهاء العشيرة,وعندما اصبح رئيس العشيرة هو اكثرهم بعثية وليس اكثرهم غيرة وحمية واوسعهم مضيفا,وعندما كان رؤوساء العشائر يخلعون عكلهم في كل صاعدة ونازلة ويدبجون بها امام القائد الضرورة بسبب او بدون سبب ثم يهتفون"اثبت يا عكال الراس" وانى لمثله ان يثبت وانتم تتقافزون كالقرود يا قردة؟!!,وكره العراقيون لكل ما هو قبلي وعشائري يعني البداية لتفتيت حتى النظام القبلي الذي ينوي المالكي اقامته في العراق,ليعيش العراقيون بعد ذلك بلا اي نظام لا قانون ولا عقيدة ولا حتى قبيلة!!.

fakeerabd@yahoo.com

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP