لعلكم تعقلون

اصدقاء القصة السورية-عبد الله احمد الفيفي
نظرتنا الموضوعيّة إلى الشِّعر العامّي، وإلى مسابقاته، وراء ما تحدّثنا عنه من إيجابيّاتهما في مساقات سابقة، وليست نكوصًا عن مواقف سابقة. على أن شجاعة الباحث والناقد- المنبثقة عن بحثه عن الحقائق بتجرّدٍ عن الأهواء- ينبغي أن تكون كافية للنكوص عن قناعاته السالفة، مهما كانت، متى تبيّن له وجه الحقّ في غير اتجاهه الذي كان عليه. بيد أن ما أُدلي به في هذا السياق لا يتناقض مع مواقفي الواضحة من اللهجات العربيّة، ولا يتعارض مع آرائي المفصّلة في الشِّعر العامّي، وما يثيره من زوابع جهلٍ وجاهليّة فينا. وهو ما لا يبرّره ترديد: إنه مكوّن في شعريّتنا، أو إن له مكانته الجماهيريّة؛ فما أهلكنا إلاّ الحفاظ على مكوّناتنا المرضيّة، والتسليم لكل سائد! وذلك هو موقفي، منذ كتبتُ منذ سنوات في هذا الموضوع، محاولاً بيان ما للهجات وشِعرها، داعيًا إلى الإفادة منه وإلى استثماره، وما عليهما، منبّهًا إليه محذّرًا منه.
لقد أَبَنْتُ أنه يمكن أن يُفاد من اللهجات في دراسة اللغة العربيّة، وفي توظيف المأثور الشعبي أدبيًّا وفنّيًّا، وفي البحث اللغوي والاجتماعي والثقافي والأدبي. وكلّ هذا حقّ مشروع، بل أراه واجبًا. أمّا ما حَدَث في السنوات الأخيرة من عودةٍ مهووسة إلى العامّيّة، وانكفاء عامّيّ على تراث العامّيّة، واستحياء واسع لثقافة العادات والتقاليد والقَبَليّة، وإنفاقٍ لا مسؤول للأموال في سبيل ذلك كلّه، وصرفٍ لمقدّرات طائلة عمّا كان أَولى بها من حاجات الأُمّة المنكوبة في كلّ أطرافها- فضلاً عمّا بات يرسّخه ذلك المشروع التخريبي من شرخٍ في اللغة، وتفتيت للهويّة، وتلهيج للثقافة، وابتذال للقِيَم الثقافيّة العُليا- فدَرْوَشَة لا أفهمها، ولا أرى من ورائها خيرًا.
لقد انتقلت الثقافة العربيّة من رفض الجديد والتجديد، إلى الارتداد العميق إلى كلّ قديمٍ بالٍ والإغراق فيه. ولقد استُغلّت في سبيل ذلك مختلف الوسائل المتاحة، وببركة ما أمدّنا به الغرب، لا ببركة عقولنا؛ فعقولنا في جيوبنا لا في رؤوسنا. وفي نطاق تلك الردّة العامّة يأتي الحِراك الشعبوي العارم، الذي لا منطق له، إلاّ الهوى والتعصّب والمكابرة والمتاجرة، إنْ كان للهوى والتعصّب والمكابرة والمتاجرة من منطق!
وأقف هنا تقديرًا للإجابة التي أدلى بها الشاعر المبدع أحمد الصالح (مسافر) لمجلة (القصيم، العدد122، ذو الحِجّة 1428هـ= ديسمبر 2007م، ص47- 48)، عن سؤال محاوره (سعود التويجري)، حيث جاء فيها:
"- انتشرت قنوات ومجلاّت الشِّعر الشعبي بشكل كبير ومذهل، هل مردّ ذلك فساد الذائقة الأدبيّة..؟ أم تكاسل شعراء الشِّعر الفصيح وعدم مواكبتهم حاجة الجمهور..؟
- انتشار القنوات الفضائيّة ومجلاّت وصفحات الشِّعر الشعبي ليس ذنب شعراء الفصيح، ولكنها أسباب كثيرة، من أهمّها: أن معظم القائمين عليها ثقافتهم تستبدل الذي أدنى بالذي هو خير. والشِّعر الشعبي يتابعه عامّة الناس، فكلّ من يستطيع القراءة أيًّا كان مستواه منها يسهل عليه قراءة وسماع وفهم الشِّعر الشعبي، حيث هو لغة الشارع المتعلّم والأُمّي؛ إذ إن من شعراء الشِّعر الشعبي مَن لا يعرف القراءة والكتابة قديمًا وحديثًا، وهذا لا ينفي عنهم الإبداع الشِّعري، ولكنه بلسان غير مبينٍ لكلّ العرب. كما أن هذه القنوات والمجلاّت والصحف لدى بعضها الحماس الذي يرفع مستوى تغلغلها في الناس، بما تقيمه من مسابقات وجوائز ومنتديات عبر القنوات الفضائيّة، ممّا تستقطب به محبّي الشُّهرة والظهور.. والإنسان بطبعه يُحِبّ ذلك. كما أن الوسط لا يخلو من بعض الأيدي التي تسعى إلى أن تكون لغة كلّ بلدٍ عربيّ وثقافته عامّيّة وبلهجته المحلّيّة، وهذا من أهداف تقويض وحدة العرب واتّساع الهُوّة بين شعوبهم وإبعادهم عن لغة القرآن الكريم وفهمه."
وأقول: يا ليت تلك اللهجات عربيّة خالصة! ولكنها لهجات محمّلة بلغات وافدة كثيرة، ولاسيما في المجتمعات الساحليّة من الجزيرة العربيّة والخليج العربي، أو في اللهجات العربيّة التي عاشت في كَنَف لغات أخرى، بعامل جغرافيّ أو استعماريّ.
وإلى هذا، يجب أن نعترف أن اللهجات هي عامل تناكرٍ بين أبناء العروبة، ومنطلق تنابذ بينهم، وشرارة النَّعرة الأُولى، حتى بين أبناء البلد العربي الواحد. وهي لهذا تمثّل أرضيّة العزل، والفصل، والتمييز اللغوي والنفسي والاجتماعي والعنصري بين أبناء الأقطار العربيّة. ولننظر إلى مصداق هذا في أساليب التنقّص والسخريّة والتعصّب من أهل بلدٍ ضدّ أهل بلد، ما وسيلته الأُولى؟ أليست لهجة أهل ذلك البلد، التي تَختزل شخصيّتهم كلّها؟ وكلّ أهل لهجةٍ يرون لهجتهم مثال الجمال والكمال، كما يعتقدون في شخصيّتهم الجمال المطلق والكمال- واللغة هي الإنسان- فيما يضربون بلهجة الآخرين الأمثال حين يريدون النيل منهم، على أيّ مستوى من المستويات. تلك هي اللهجات بما تشكّله من خطر انقسامٍ في بنيتنا الوطنيّة، وما ترسّمه في بنيتنا القوميّة من تصدّع. ومع هذا، ها نحن هؤلاء نكافح بكلّ ما أوتينا من قوّةٍ لإحياء اللهجات وتأبيدها! مَثَلنا كمن أصيب بمرضٍ مزمن، وهو ما ينفكّ يُغذّيه ويمدّه بأسباب الاستشراء والتمكّن من جسده.. وما من عاقل يفعل ذلك!
أما كفانا ما سلبه الاستعمار منّا، بوجهيه الماضي والمعاصر، العسكري والثقافي؟! فلماذا نكون شرًّا منه على أنفسنا؟! ولماذا لا نوجّه أجيالنا إلى المستقبل لا إلى الماضي، الرثّ التعيس؟ ولماذا لا نوجّه أموالنا إلى خير الإنسان، وترقيته اجتماعيًّا وعلميًّا وثقافيًّا، دون غمسه في وحلٍ ما كاد ينعتق منه حتى أعدناه فيه؟ لماذا- إنْ كنّا إلى هذا الحدّ حفيّين بالتراث- لا نوجّه أموالنا إلى إحياء التراث الحضاري الحقيقي والمشرّف، عربيًّا وإسلاميًّا، المطمور في مخطوطات، ومكتبات، ومواقع، وآثار؟ لماذا- إنْ كنا إلى هذا الحدّ شغوفين بالتراث- لا نوجّه حبّنا وأموالنا لإقامة متاحف كُبرَى كما تفعل الدول الحيّة، على غرار المتحف البريطاني، مثلاً، أو اللوفر، أو تشييد مجامع لغويّة، وعلميّة، أو بناء مكتبات عظمى، أو إنشاء مدائن أبحاث عربيّة، تستحقّ هذه التسمية؟ لماذا لا توجّه تلك الملايين إلى الترجمة، أو إلى الصناعة، وإلى التقنية، كما يفعل العالم أجمع؟
ألا ليت العرب يعقلون، ثم إذا عَقَلوا يعملون، وإذا عَمِلوا يعدلون! ولقد خاطبهم الله بلسانهم العربيّ المبين، الذي ضيّعوه اليوم، وجعلوا يُمعنون في الانقلاب عليه، فاتحًا باب الأمل في أن يعقل العرب يومًا من الأيّام، لعلهم يصبحون أُمّة راقية كالأمم والأمبراطوريّات التي ظلّت تحيط بهم من كلّ جانب عبر تاريخهم كلّه، وكأنهم لا يرون ممّا حولهم: أين هم وأين الآخرون؟ وكأنهم بالفعل قد كُتب عليه ألاّ يعقلوا! بل الأدهى من ذلك أن يظلّوا معتقدين أنهم الأفضل، والأرقى، وأن لُغتهم- بحالتها الكسيحة، التي لولا سيبويه وغيره من الأعاجم لضاعت منذ وقتٍ مبكر فيما ضيّع العرب- هي الأفضل والأرقى، فيما هم ينشطون بحماسٍ ضدّ أنفسهم، خارج العقل والعمل، يحلمون ولا يعملون، يقولون ولا يفعلون، يتشدّقون ولا ينتجون! إنها آيةٌ بالغة الدلالة على حالنا القديمة الحديثة المستمرّة، يتوجّه الخطاب فيها إلينا- نحن العرب- قبل البشر كافّة، في ستّ كلمات، من المفترض أن يجعلها كلّ عربي نُصب عينيه دائمًا، ليسائل نفسه أين هو منها؟ إذ يقول تعالى: "إِنَّاأَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، [يوسف: 2]. أي لا حجّة لكم، لكن "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ!". لقد خوطب بهذا الأسلوب التقريعي السواد الأعظم من أجدادنا، الذين لم يكونوا يعقلون؛ إذ لا يكادون يفقهون حديثًا، كما وصفهم الله، حتى وإن جاء بلسانهم العربي المبين؛ لا لغبائهم، ولا لجهلهم، ولكن لجهالتهم، وعنادهم، وغرورهم، وطيش أحلامهم، وركوبهم رؤوسهم عند كلّ جدال، مراءً وكِبْرًا؛ ولأن اللغة لا تُجدي إلاّ مع عقل. وليس (العقل) هنا في مقابل (الجنون)، لكنه في مقابل السَّفَه، والنَّزَق، والانغلاق، والكِبْر، والضياع في صحارى التِّيه والضَّلال، والاستهانة بما تدلّ عليه دوالّ الطبيعة والحكمة. ولِمَ يرتكب الإنسان حماقاته تلك؟ ليس إلاّ في سبيل مجدٍ، أو مطمعٍ ذاتيّ، أو لكي يقال ويقال، أو لكي لا يقال ولا يقال؛ إذ يُصبح المرء تبعًا لصورةٍ نمطيّة يُحِبّ أن تظلّ وفق ما ترضى به الجماعة، وإن سَلَّم عقليًّا أن جماعته في الضلال المبين!
تُرى كيف حالنا اليوم بعد تلك القرون المتطاولة؟ هل عقلنا؟
يبدو دائمًا أن الطبع غلاّب، والعِرْق دسّاس!

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP