اقتصاد العقول...!



كتابات - د.مراد الصوادقي

رأس مال المجتمعات الحقيقي هو عقول أبنائها , فكلما تنامت العقول في المجتمع , أصبح أكثر قوة وقدرة وتقدما والعكس صحيح. فالمجتمعات القوية لا تصنعها المذاهب والفرق والأحزاب , ومَن يتوهم بأنها تصنع مجتمعات قوية معاصرة , بمعنى مفهوم القوة الحديث , فأنه على خطأ كبير ولا زال يعيش في خندق الأجداث. لأنها وعبر التاريخ البشري كانت المصدر الأساسي لسفك الدماء وتدمير لحمة المجتمع وتماسك قدراته وتفاعله الخلاق , الذي يؤدي إلى صيرورة حضارية كبرى. والمجتمعات القادرة في عصرنا الحالي , هي التي تستثمر العقول وتستوردها وتشجعها على القدوم إليها. ولهذا نرى أقوى الدول تفتح أبوابها للعقول من جميع أنحاء العالم وتوفر لها أسباب التعبير عن طاقاتها وأفكارها , لكي تبقى في قوة متنامية وتفاعلات متقدمة ذات قيمة حضارية متفوقة.
وكلما ازداد عدد العقول الوافدة إلى مجتمع ما , حقق ذلك المجتمع كسبا وارتقاء, والمجتمعات التي تخسر عقولها تصاب بالعديد من الكوارث وتتنامى فيها الويلات والتفاعلات السلبية الضارة. والمجتمع العراقي من أكثر المجتمعات الأرضية خسارة لعقوله وإهمالا لها , فتواصلت فيه الأحداث المأساوية على مر العقود.
فنحن من المجتمعات التي لا تقدر قيمة العقل , وتضع المعوقات والعراقيل أمام العقول الذكية القادرة على الإبداع والنهوض والتغيير. ولهذا فقد نزف المجتمع خيرة العقول وأحسن الكفاءات ودفعها إلى الرحيل بعيدا عنه , حيث ساهمت في بناء المجتمعات الأخرى التي هاجرت إليها.
ويهمل الباحثون في موضوع الخراب العراقي هذه الظاهرة السلبية المهيمنة على مجتمعنا والفاعلة في تقرير أحداثه ومسيرة أيامه , فنحن نستهين بالعقول ونعتز بالكراسي وبالأشخاص الذين يدورون في حلبة السلطة والسلطان أيا كان نوعهم . ونجمع في مركز القرار , أناسا بلا عقول قادرة على الإبداع , وإنما مفرغة من كل شيء إلا مهارات الطاعة والخداع والتضليل وتأمين الحاجات الأنانية والمنافع الشخصية. وهذا السلوك قد دفع بمجتمعنا إلى حالات مأساوية كبيرة وذات نتائج خطيرة , فعلت ما فعلته على مدى الأعوام الماضية ولازالت مؤثرة في مسيرة الحياة.
وفي جميع الأحداث يكون العقل غائبا أو مغيبا والانفعال متسيدا والعواطف عارمة ومتأججة , للحد الذي لا يمكن للعقل أن يجد مكانا أو يُعرف له صوت أو دور مؤثر. وحتى يومنا هذا , يبقى السؤال عن أين العقول العراقية الراجحة التي لو تفاعلت لصنعت نظاما قويا مقتدرا ومؤثرا في المستقبل. لكنها موؤدة والعواطف مطلوقة , والاعتقاد المهيمن أن المذاهب والأحزاب والمحاصات هي التي تصنع حاضرا ومستقبلا. والواقع يقول , أن العقل العراقي هو الذي يصنع العراق القوي العزيز المتقدم. أما هذه الانحرافات فأنها تصنع الخراب وتدمر المجتمع وتؤكد سلوك السوء , وهي تدعي غير ذلك قولا وتناقضه فعلا. وتلك مصيبة العراق.
إن علة العراق الحقيقية والتي نأبى أن نقر بها ونتأملها ونواجهها, هي حرمان العقول العراقية من المشاركة في بنائه الاقتصادي والثقافي والسياسي. وعدم توفير لجان استشارية ومراكز بحوث ودراسات في ميادين العلوم المختلفة , تعطي للسلطة الحاكمة الرأي والمشورة العاقلة النقية الرصينة.
فالعقول العراقية مهجرة , مضطهدة , مقهورة ومطاردة ومصدرة إلى الخارج بالمجان وبالجملة. فكيف يكون العراق وينمو المجتمع عندما يتم تفريغه من العقول , وتحويله إلى حلبة لصراع الجهلة والأحزاب والطوائف والمذاهب , والتفاعلات الأنانية المتنوعة ذات المردودات الغير نافعة.
والمجتمعات التي تقتل عقولها هي مجتمعات ميتة وعالة ودمية ومطية لا تستحق الحياة.
فأين عقولك يا عراق؟
أين عباقرة الفكر والعلم والسياسة والإبداع وصناع الحياة؟
تساؤل عليه أن يجد جوابا صادقا لكي يكون العراق.
وفي الختام فأن اقتصاد العراق ليس نفطا وإنما عقول أبنائه هي أصل الاقتصاد وقوته , ولا يمكن أن تتحقق الرفاهية وينعم العراقيون بوطنهم , ما دامت العقول العراقية مشردة وممنوعة بأمر السلطة , أيا كانت , من المساهمة في بناء الوطن ورسم خارطة المستقبل.
وقد لا يتفق الكثيرون مع ما تقدم , لكنه الواقع الاجتماعي العراقي الشاذ الذي علينا أن نتصدى له , فنهتم بعقولنا ونرفع قيمتها ونعزز دورها , ونفسح لها المجال للمساهمة في صناعة التقدم والازدهار. وإلا سنبقى ندور بذات الدائرة المفرغة ونجتر الأفكار البالية المنهوكة الفارغة.

alsawadiqi@maktoob.com

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP