لي وطن كأنه فرن

كتابات-برهان المفتي

كان الشاعر العراقي المجنون، جان دمو يقول حين يخرج من مبنى جريدة الجمهورية أيام صيف بغداد (يا إلهي.. هذا وطن لو فرن)، ورحل جان إلى أقاصي أستراليا ليموت هناك، ولا أدري هل نجت جثته من حرائق الغابات الأسترالية أم أن نيران الفرن قد لاحقته إلى هناك.

نعم.. صار الوطن كالفرن على وجوه العراقيين، وفي قلوب العراقيين المهاجرين، وفي عيون المودعين، فرناً يحرق بناره الذكريات فتصبح رمادا على العيون ليزيد من ضبابية مشهد الوطن ، وا رمادا على الرؤوس فيكسو الشيب رؤوسنا التعبة قبل أوانها.

منذ عقود ولنا وطن كالفرن بل انه الفرن، أكلت ناره شبابنا وأحرقت أحلامنا، أنظروا إلى وجوه العراقيين الأصلاء وليس أولئك الذين هم رغوة الزمن يطوفون على الظروف كلها فيحملون من ألوان تلك الأوقات ، لكن العراقيين الأصلاء لهم ثقل همومهم، فلا يطوفون بل يغرقون في هموم الوطن حين يكون النهران دجلة والفرات مجرى هموم يغطي مدن العراق، فينزل الأصيل إلى قعر هموم الوطن ولا يخرج منه إلا إلى جفاف قاحل لا ينبت فيه حلم ولا ياتيه ربيع أبدا.

واو.. وحشة في القلب

طاء.. طريق غادرناه وبقي أثار العجلات في ذاكرتنا

نون..نشيد الطفولة الأول حين كنا نقف في صفوف العرض الصباحي في المدارس.. ونتغنى بزرقة سماوات الوطن

ذلك هو الوطن.. وذلك الذي صار فرنا في قلوبنا نحن الراحلين عن سماوات وطننا وعن ديار أحبتنا وأزقة طفولتنا وعتبة مدارسنا الاولى.

كانت مدرستي الإبتداية والمتوسطة والإعداية كلها في في منطقة واحد ، بين الإبتدائية والمتوسطة شارع ضيق، أما المتوسطة والإعدادية فمتلاصقتان بينهما باب نعبر منه. كان علينا أن نعبر الشارع لنكبر، وكان علينا مرور الباب لندرك، تماما كما الحال الآن، كنا في حضرة الوطن أطفالا لم نفطم من حنان الوطن والأمهات، عبرنا طريقاً أخرجنا إلى الغربة فكبرنا وضاق القلب في ضلوعنا، فننظر من ثقب الذاكرة إلى مشهد الوطن كل يوم لندرك حجم ما فقدناه.

حين سقط جان دمو وحيدا كالسيف كما كتب عمران القيسي في رثائه لجان، حينذاك أحسب أن جان قد نظر من ثقب ذاكرته إلى الوطن ففاجئته لفحة من هواء فرن الوطن، فأحترق به جان دمو.. وكذلك سنفعل نحن غداً أو بعد حين.

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP