مشروع المصالحة بين مشروعي الأمن والديمقراطية


كتابات - ضياء الشكرجي

الكلام عن المصالحة في العراق ليس كلاما عن مصالحة بين فرائق سياسية اختلفت فقط اختلافا سياسيا أو حتى اختلافا فكريا. إنما الكلام عن المصالحة يعني المصالحة إما مع من كان جزءً من النظام الديكتاتوري السابق، وإما مع من حمل السلاح ومارس العنف بعد نيسان 2005 من مقاومة مقاطِعة للعملية السياسية، أو ميليشيات لقوى مشاركة في العملية السياسية من الطائفتين المسلمتين، لعدم تورط أبناء الأقليات الدينية الأخرى بالعنف، كما هو الحال مع سنة وشيعة العراق.

ويجب الإقرار أن المصالحة تأتي كخيار اضطراري، بسبب أن الطرف المتوجَّه إليه بالمصالحة شكَّل أمرا واقعا كبيرا ورقما ضاغطا من خلال العنف الذي أربك مشروعين وطنيين أساسيين في العراق؛ ألا هما مشروع الأمن، ومشروع الديمقراطية، لأن العنف يمثل عنصر إرباك وزعزعة وخطر بالنسبة للأمن المجتمعي من جهة، وبالنسبة للمشروع الديمقراطي من جهة أخرى. هذا لا يعني التقليل من أهمية نفس مشروع المصالحة لذاته وبتجريده عن عاملَي الأمن والديمقراطية، وكذلك لا يعني أن الضغط صادر من جهة واحدة، بل المُتصالَح معهم هم أيضا واقعون تحت الحاجة التي تمثل دافعا لكلا طرفي المصالحة، وكذلك لا يعني أن بعض المتصالَح معهم قد أعادوا النظر بصدق في نهجهم وقرروا التحول من لغة العنف إلى لغة الحوار.

وغالبا ما يكون كل من طرفَي المصالحة لا يؤمن بشرعية الطرف الآخر، لكنه مقر بوجوده الفاعل والمؤثر في الواقع، وإن كان عدم وجوده ربما كان سيكون هو الخيار الأفضل لكل من الطرفَين، أو لا أقل لفصائل من كل من الطرفَين.

فعندما تتصالح الدولة مع منتمين إلى ديكتاتورية دموية ولو من حيث الانتماء الفكري، مع تعاطف وتضامن بنسبة أو بأخرى، مُعلَن أو غير مُعلَن مع تلك الديكتاتورية، مما يجعل الطرف المتضامن مشاركا للديكتاتورية في ممارساتها، ولو مشاركة غير مباشرة، فإنما تتصالح مع هؤلاء لأنهم استطاعوا أن يتحولوا إلى رقم ضاغط، أو لأنهم يتمتعون في ثمة أوساط شعبية بثمة تعاطف وولاء.

وهذا ينطبق على تيارات وميليشيات العنف الإسلاموي والطائفي من الطائفتين لقوى ما بعد التغيير. فالسياسيون غير المشاركين بشكل مباشر أو بأدلة ملموسة بجرائم أي فصيل مارس العنف من قتل وتعذيب وتضييق على الحريات، عندما ينتمي فكريا وسياسيا وولائيا لواحدة من تلك القوى التي ركبت موجة الدم والعنف الدموي، فمهما يطرح أنفسهم مثل هؤلاء السياسيين كمعتدلين وأهل حوار وتفاهم وتصالح، فهم في حقيقة الأمر مشاركون بجرائم الطرف المنتمين إليه فكريا على أي نحو كان من المشاركة. ومثل هؤلاء تحظر عليهم عادة دساتير وأنظمة الدول الديمقراطية ذات الديمقراطية المستقرة أو المتطورة العمل السياسي، لكنها تمنحهم كامل حقوق المواطنة الأخرى.

معنى كل ذلك إن بمعايير مبادئ الديمقراطية لا حوار ولا لقاء ولا مساومة ولا هدنة مع رواد العنف والسائرين على نهج الدم، من دمويي ما قبل التغيير أو دمويي ما بعد التغيير، من داخل أو من خارج العملية السياسية. ولكن إذا كانت الديمقراطية متقاطعة مع مشروع المصالحة مع عناصر الخطر على المشروع الديمقراطي، فإن مشروع الأمن يكون بأشد الحاجة للمصالحة معهم، والأمن بلا شك هو بدوره شرط أساس لاستكمال المشروع الديمقراطي. لكن في نفس الوقت فسح المجال لمناوئي المشروع الديمقراطي سيعرض هذا المشروع للخطر. هنا نجد أنفسنا إذن أمام معادلة صعبة، بل غاية في الصعوبة. فنحن أمام إنجاح مشروع الأمن على حساب مشروع الديمقراطية، أو أمام أن نبقى أوفياء وفاءً مثاليا لأسس الديمقراطية التي تحظر عادة على قوى العنف و(كُفّار) الديمقراطية من ممارسة الحياة السياسية، فيكون الانتصار المثالي أي غير الواقعي للديمقراطية تهديدا لمشروع الأمن. ولا ديمقراطية بلا أمن.

هذا كله لا يعني أبدا عدم وجود بعثيين غير صداميين وغير دمويين، وبعثيين يمكن أن يكونوا أعادوا النظر في بعض مفردات إيديولوجيتهم السياسية، مما يقربهم بدرجة ما من المشروع الديمقراطي، وكما لا يعني إنه لم تحصل أخطاء في كيفية التعاطي مع مثل هؤلاء البعثيين، كما ولا يعني كذلك عدم وجود إسلامويين ينتمون تاريخيا بل وحتى حاضرا من الناحية الفكرية لتيار مارس أصحابه النهج الدموي، وهم غير راضين عن ذلك النهج. لكن يبقى البعثي سواء المنتمي إلى بعث صدام حسين، أو المنتمي إلى بعث حافظ الأسد، يبقى نائيا أيما نأي عن الديمقراطية، إلا إذا كان بعثيا مجددا، كما إن أربعة من خمسة أحزاب إسلامية شيعية لا تتبنى العقيدة الديمقراطية إطلاقا، أو تتبناها بشروط تسلخها من جوهرها، وخامس هذه الأحزاب يراوح بين الديمقراطية المشروطة بشروط إسلامية ولو مخففة نسبيا، وبين الإسلام السياسي المعتدل، ولم يحسم خياره الديمقراطي العلماني بضرورة الديمقراطية، إلا على مستولى بعض أفراده العقلاء والمعتدلين والقريبين من الفكر الديمقراطي، وأقل منهم ربما حتى من الفكر العلماني.

نحن إذن أمام مشروع ديمقراطي تنوء به قوى غير ديمقراطية بالعمق إلا بنسبة يمكن أن تنمو أكثر في المستقبل، باعتبار أن التحوُّل والترشُّد عبر التجربة شيء ممكن، لكنه غير ممكن أو شبه محال لدى أصحاب الإيديولوجيات الثيوقراطية الشمولية، وكذلك أمام وجود بعثيين يريدون أن يشاركوا بالعملية السياسية. هنا لا بد من أن تثبت أسس لهذه المشاركة، طبعا بعد توفير الأرضية الدستورية، كما بينت في مقالتي السابقة. من غير شك يجب أن يعتمد هذا الحزب الديمقراطية في فكره ونظامه الداخلي وبرنامجه السياسي وأدائه، ولو ظاهريا، لأننا دستوريا وقانونيا لا نستطيع أن نحاكم الناس على وفق نواياهم المُضمَرة، بل فقط على وفق أفكارهم المُعلَنة وسلوكهم الخارجي، ولأن لدينا من داخل العملية السياسية العديد من الأحزاب غير الديمقراطية في أسسها الفكرية والإيديولوجية، لكنها اعتمدت الديمقراطية ظاهرا، ومن هنا كان لا بد من تُشرَك في العملية السياسية، أو إنها فرضت مشاركتها، من حيث رضي الديمقراطيون أو من حيث لم يرضوا، رغم الخرق الصارخ من قبل معظمها لمبادئ الديمقراطية.

أرجع وأقول نحن أمام ثلاثة مشاريع، مشروع المصالحة، وهو يواجه المشروعَين الآخَرَين مُؤثِّراً بهما سلبا أو إيجابا، ألا هما مشروع الأمن، ومشروع الديمقراطية، فتارة نربح شوطا في الأمن على حساب الديمقراطية، وتارة نربح شوطا في الديمقراطية على حساب الأمن، وفي كلا الحالتين لا يجوز التفريط بأحد المشروعين، الأمن أو الديمقراطية بدرجة يجعل أحدهما مُعرَّضا للانهيار الكلي، أي إما انهيار مشروع الديمقراطية كليا، والذي معه سينهار مشروع الأمن والسلام المجتمعي حتما، أو انهيار مشروع الأمن كليا، والذي معه سينهار مشروع الديمقراطية حتما. ويبقى مشروع المصالحة بذاته بشرطه وشروطه مطلبا وطنيا ذا قيمة ذاتية بقطع النظر عن المشروعَين.

وتبقى الديمقراطية أم كل المشاريع الوطنية.

d.sh@nasmaa.com

About This Blog

About This Blog

  © Blogger template 'Sunshine' by Ourblogtemplates.com | Distributed by Deluxe Templates 2008

Back to TOP